كاترينة
…¶
و بمناسبة حديثنا عن الصحراء؛ فلقد عدت للتو من رحلة تمشية أربعة أيام في جبال و وديان منطقة سانت كاترين في جنوب سيناء..البدو الجبالية شعب رائع، و مناظر بديعة. الليلة التي قضيتها فوق قمة جبل كاترين كانت أبرد ليلة قضيتها في حياتي كادت أطرافي فيها تتجمد، كما سمعت صوت نظارتي و هي تتحطم تحتي أثناء تقلبي بحثا عن الدفء بلا جدوىٰ!¶
المشي في الدروب و المسالك التي يطرقها الجبالية منذ مئات السنين شيء رائع و مُوْحٍ. الصحراء هناك ليست علىٰ الصورة التقليدية التي تسكن مخيلتنا عادة؛ موحشة و قاحلة و جرداء، بل هي أشبه بحديقة من الصخور الملونة و الشجيرات و الأعشاب العطرية، و أحيانا الحيوانات.¶
عندما تمضين الليلة في جنان الرمان و الزيتون الصغيرة في الوديان، يمكنك أن تدركي المعنىٰ الفعلي لكلمة جنة، و كذلك ما يعنيه أن يطرد شخص من الجنة. عندها فقط يمكن للمرء أن يفهم منطق الديانات الثلاث، و من أين أتت بمفاهيمها، و هو ما لا يمكن للغربيين أن يستوعبوه عن بعد، و لا حتىٰ الشرق أوسطيين في مدنهم العظمىٰ المكتظة.¶
فوق هذا، سيمكنك أن تلمحي دستة من الشهب اللامعة في السماء أثناء جلوسك حول نار المخيم تتجاذبين أطراف الحديث مع رفاقك و مضيفيك البدو السيناويين الذين ستدهشك دماثتهم و كياستهم و حسن طباعهم، بل و خجلهم منا نحن الصاخبين القادمين من وادي النيل. بعد مشي يوم طويل، قد يتسنىٰ لك أن تلمحي بعض الشهب أيضا في اللحظات القليلة التي تبقين فيها مستيقظة ما بين أن تدسي نفسك في فراشك، و ما بين التقاطك لأول مذنب عابر إلىٰ عالم الأحلام.¶
…¶
هذه ترجمة جزء من رسالة كنت أرسلتها لصديقتي ك بعد عودتي من تمشية في جبال و وديان سانت كاترين مع أخي، و صديقنا م، و صحبة لنا في أكتوبر:¶
صباح الجمعة الثالث من أكتوبر انطلقنا من الملقىٰ، بلدة سانت كاترين الصغيرة بين الجبال. كنا ستة و دليلنا صالح. مشينا صاعدين وادي الأربعين جنوبا علىٰ درب قديم، يكاد يكون مُعَبَّدًا بالحجارة، و منه إلىٰ وادي شق موسىٰ حتىٰ سفح جبل كاترينة. عندما تمشي هنا لأول مرة يلفت نظرك تنسيق المكان، الدرجات الحجرية، الأسوار، حتىٰ أنك لتظن أن الصخور المتناثر موضوعة في أماكنها بنظام. و مع أن الجفاف يضرب هذه المنطقة منذ سنوات، إلا أن النباتات الصابرة و عيون الماء القليلة التي لم تجف، تجعلك تحس بالألفة و كأنك تمشي في ردهة منزل و ليس في الخلاء. هذا الإحساس لن يزول.¶
في منتصف النهار توقفنا عند عين شنير الظليلة لنرتاح و نتناول غدائنا. عندما انطلقنا مجددا كانت الشمس قد بدأت رحلة هبوطها.¶
مع نهاية وادي شق موسىٰ الوعر كنا وصلنا سفح الجبل و بدأنا الصعود. الصعود في الدرب المتعرج الذي يرتقي علىٰ جانب الجبل أضنىٰ رفيقة لنا و استنزف كل طاقتها فقررت الانهيار. جلسنا مرة أخرىٰ نرتاح إلىٰ أن أمكنها متابعة المسير. عندما بلغنا مكانا منبسطا يشرف علىٰ السفح الشمالي للجبل كانت جمالنا تنتظرنا فيه مع راعيها سالم، استلقينا يغمرنا الغسق البرتقالي في نوره لبعض الوقت قبل الصعود الأخير إلىٰ القمة. استجمعنا قوانا لنتابع الصعود الأخير نحو القمة؛ هدفنا في اليوم الأول و مكان مبيت ليلتنا.¶
علىٰ سطح صومعة الرهبان القديمة شهِدْتُ غروب شمس ذلك اليوم من فوق أعلىٰ قمة في مصر 2،640م، التي آوت مع أخواتها السبع المحيطات بها في القديم رهبان القديسة كاترينة في معازلهم. كان دليلنا يخبرنا أن هذه ستكون آخر الرحلات التي تقصد المبيت علىٰ قمة الجبل. من اليوم سيحول البرد دون ذلك.¶
بعد غروب الشمس انخفضت الحرارة أكثر فأكثر، فتناولنا عشائنا حول نيران تغالب التجمد، و ذهبت لأقضي أبرد ليلة في التاريخ، حال البرد أن أنامها إلا سويعات.¶
في الصباح التالي بدأنا رحلة النزول لنتابع المسير الذي يصبح بعد اليوم الأول و كأنه الشيء الوحيد الذي كنت تفعله طوال حياتك. و إذا كنت مثلي ممن يجدون في المشي متسعا لإطلاق العنان لفكرك، فستجد أنك بعد قليل صرت لا تمشي بل تحوم.¶
من طرف وادي شق موسىٰ نزلنا غربا في وادي أحمر الذي تزينه جلاميد الجرانيت و تفوح فيه رائحة الأعشاب، لنمشي في نهايته علىٰ إفريز ضيق نتحسس جدارا حجريا لا بد و أن منظرنا أثناء عبوره كان أشبه بالسحالي التي تقف لتتشمس علىٰ أجناب الحجارة. دلفنا بعد ذلك إلىٰ وادي الشق لنرتاح و نتناول غدائنا في الحديقة الصغيرة في أوله و لنرىٰ أول المسافرين غيرنا. عندما بدأت الشمس رحلة الغروب، بدأنا نحن رحلتنا إلىٰ وجهتنا، وادي زواتين ذي الزيتونات القديمة، لنصله قبيل أن تصل هي.¶
أشجار الزيتون في وادي زواتين عتيقة، بل عتيقة جدا. تغضنات جذوعها تجعلها أشبه بأعمدة حجرية قديمة نحتها الزمن. أذكر أن صديقي م.م. أخبرني مرة أن هذا الوادي بشكل حدائقه و أسواره الحجرية و أشجاره القديمة لم يتغير في مجمله من أيام موسىٰ الرسول!¶
من مدخل الوادي كان بإمكاننا أن نرىٰ قمة جبل كاترينة التي استيقظنا فوقها صباح ذلك اليوم. قابلنا صديقتنا المنهارة، التي كانت ركبت جملا عندما بدأنا نزولنا و ذهبت مع الجمال التي تحمل حقائبنا من طريق مختصر . وجدناها باشّة مبتسمة، و حكت لنا كيف أمضت معظم النهار في ضيافة أسرة سليمان. تناولنا عشائنا حول النار كالعادة، و تبادلنا الحكايات.¶
ليلة دافئة نمتها تحت شجرة تفاح صغيرة في حديقة الست عامرية الشهيرة اللطيفة. بعد الليلة السابقة المتجمدة، لم يعد هناك ما يمكن أن يزعجنا. في الحقيقة أني كنت مرتاحا لدرجة أني تأملت النجوم لدقيقة كاملة قبل أن أدخل قوقعة النوم العميق.¶
في الصباح، بعد إفطار و حزم حاجياتنا، انطلقنا في وادي زواتين إلىٰ الشمال الغربي لنمر تحت جبل عبّاس، المسمىٰ علىٰ اسم الخديويْ الذي اعتزم أن يبني منزلا له فوق قمته للاستشفاء، و لكنه مات قبل أن يكمله. لما كنا لم نزر الجبل من قبل، فقد أقنعنا أنا و أخي صاحبا لنا أن يرافقنا إلىٰ قمته، بينما لم تكن بالآخرين رغبة، لأن بعضهم رآه، و بعضهم الآخر قرر أن يوفر قواه لباقي اليوم الذي كان في بدايته.¶
صعدنا الجبل في خطوات سريعة واسعة فوصلنا قمته بعد ثلث الساعة. من شرفات أطلال المنزل الحجري الناقص، يمكنك أن ترىٰ منازل بلدة سانت كاترين عند قدمه، بعيدة و صغيرة. نزلنا بعد ذلك لنتابع المسير مع أصحابنا الذين انتظرونا ساعة.¶
عند منحرف وادي طينيا إلىٰ الشرق، عبرنا منه عبر وادي صقر إلىٰ الغرب، نستهدف القَلْتَ الأزرق.¶
لا يمكنك و أنت تنزل المنحدر الوعر، الذي تختلط فيه الحجارة الصغيرة و الحصىٰ المفتت في مزيج يجعل من العسير أن لا تزِّل و تعثر علىٰ الأقل مرة واحدة، أن تتخيل أن في قاع هذه الحفرة العملاقة يقبع حوض جرانيتي من ماء المطر المثلج. أمضينا بعضا من نهار ذلك اليوم حول حفرة المياه المثلجة؛ سبح رفاقي فيها و تناولنا غداءنا وسط صخب أفراد عائلتين من الإسرائيليين كانوا قد سبقونا إلىٰ هناك و مجموعة أخرىٰ من المسافرين كنا صادفناهم في الطريق، تعرف إليهم رفاقي و تجاذبوا معهم أطراف الحديث.¶
الإسرائيليون هم السياح الأهم و الأكثر تجوالا في المنطقة. يعرفون دروبها و مسالكها و يشعرون فيها بالراحة. و بينما يصر الآباء و الأمهات المصريين علىٰ عدم اصطحاب أطفالهم خوفا عليهم من المشقة و الملل، يعيش أطفال الإسرائيليين ممن لا زالوا يخطون أولىٰ خطواتهم رحلاتهم مع ذويهم في سعادة طبيعية.¶
بعد أن صعدنا من القلت، عاودنا السير مارّين في وادي ضيق يغشاه شجر الزعرور، بينما كانت أسرة من الحمير البرية تراقبنا من فوق المرتفعات. لنصل في نهاية وادي التلعة إلىٰ فرش الرمانة، مبيتنا في ليلتنا الأخيرة التي كان جيراننا فيها العائلتين من القلت الأزرق و الصحبة الأخرىٰ من المسافرين الإسرائيليين. عند سور الحديقة الكبيرة تناولنا عشائنا، و جلس رفاقي يتسامرون مع رفقة الشباب الذين قابلناهم في القلت و مع الأدلة و الجمالين البدو، قبل أن أنسحب إلىٰ فراشي تحت شجرة رمان.¶
كان وقع المشي في اليوم الأخير و كأنما يضع اللمسات الأخيرة في قصة سحرية، أو لحن حداء عتيق. سرنا في هدوء و دعة المسافة المنبسطة الباقية عابرين من نقب جبال إلىٰ وادي جبال الذي سرنا فيه حتىٰ تقاطعه مع وادي زواتين عند نقب زواتين، فقطعنا الوادي من أوله مُسَلِّمِينَ علىٰ الست عامرية مرة أخرىٰ دالفين إلىٰ وادي طبوق الذي يسلمنا إلىٰ رحبة ندىٰ الندية التي أحيانا ما يتكون الصقيع علىٰ جنباتها في الشتاء، علىٰ ما سمعت.¶
مررنا علىٰ الحدائق الوارفة قبل نزولنا من أبو جيفة، بعدها عدنا ثانية إلىٰ مستوىٰ البلدة المنخفض تاركين منطقة المرتفعات.¶
مَنْ سَارَ عَلَىٰ الدِّرْبِ وَصَلَ.¶
لا تعليقات
عذرا، التعليقات مقفلة.